- الجميع يتحدث عن عشقك وولعك أنت بها، وربما يجب أن تحذر أن يصل خبر لطبرق بدلاً من تحذيري.
أجبته على الفور:
- طبرق لا يقيم وزنًا لتصرفاتي، وأنا في نظره مجرد أبله لا أكثر، أرجوك ابتعد عنها.
- ماذا أفعل حتى أخرج هذه الأوهام من رأسك؟ وهل كلما تحدثت معي يجب عليَّ طردها.
- تحدث معها، ولكن تجنَّب أن تجالسها بعيدا عن الأعين.
ضحك وقال:
- أعدك كلما جاءتني سأدعوك لتكون محرما بيننا.
تركته يضحك وعدت إلى خيمتي، وأقسمت أن أنتقم منه إن لم ينفذْ ما طلبت، عدت لأبحث عن تفسيرٍ للعلاقة المُبهمة بين جمال الدين والكعب، ولم أجد منطقا.
أشرقت شمس الأحد ، وأوصيت سالمًا أن ينوب عني في عمل الصباح كي أبدأ يومي باستكشاف أسرار قافلة عديد، فأعددت طنجرة كبيرة من القهوة وبعض التمر وملأت جيوبي بالحلويات لأكافئ الثرثارين من رجاله، ولمَّا بلغتُ الرقعة التي خيموا فيها لم أجد لهم أثرا، ولم يثر ذلك استغرابي بقدر رؤيتي لجمال الدين والكعب وقد انزويا تحت شجرة في هذه الساعة المبكرة، وما نمت أفكر فيه أمس وجدته في انتظاري صباحا!
أرى أن احتمالية تآمر الاثنين عليَّ بعدما فضح أمري جمال الدين للكعب أكثر منطقا من أن يكون الكعب حكيما وقرر أن يبقي عدوه تحت ناظريه...حملت القهوة وتوجهت إليهما، وتظاهرت أني أعددتها من أجلهما، وقدمت لهما التمر ومازحني جمال:
- شكرًا مولاي السلطان على كرمك.
أما الكعب فليس معتادا على احترام أحد ليشكره ولو كان مازحًا، كنت أمام أربعة عيون ممتلئة خبثًا ومكرًا ولم تخلُ من بعض المودة والكثير من الانسجام، لم يكن هناك داعيا لأفكر في أن أكون مهذبا وأتركهم لحديثهم الخاص، فقد طردني الكعب اللعين ولم يسمح لي بالجلوس، تركتهم ولم أتردد لحظة في التوجه مباشرة إلى خيمته لأطمئن على حبيبتي، فوجدتها نائمة مثل ملاك، الجزء الأكبر من جسدها مكشوفا وعلى كتفيها آثار خدوش، وقفت أتأملها وأستنشق رائحة الصباح من خلال جسدها، وتركت ظهر كفي تلامس فخذيها، لقد تعلمت من تجاربي السابقة فكنتً حريصًا هذه المرة على أكون هادئًا حتى لا تستيقظ وأحرم عيني من الاغتسال بما يظهر من مفاتنها، لم أقاوم الرغبة في معاودة التلذذ فتأوهتْ وفتحت عينيها الناعستين وانفرجت شفتاها عن ابتسامة وقالت في دلال:
- عزيز.
ثم عادت وأغمضت عينيها فأمسكت اللحاف لأتظاهر بأن اقترابي منها لتغطيتها في هذا الصباح البارد، وعادت وفتحت عينيها من جديد وقالت:
- صباح الخير عزيز.
وقلت:
- صباح الخير
وسرًا:
- صباح الخير حبيبتي.
وقالت:
- عد ونظف الخيمة لاحقا يا عزيز.
وأغمضتْ عينيها ونامت، هذه البلهاء اعتقدت أني جئت لأنظف خيمتها، وقبل خروجي لمحت شيئا يتحرك بجوار فراشها، ودبت القشعريرة في جسدي وكدت أتجمد مكاني، إلا أن خوفي بعث الحياة في جسدي وخرجت أصرخ بأعلى صوتي:
- أفعى! أفعى!
هرع الكعب ومن خلفه جمال الدين إلى صوت استغاثتي، وأشرت بيدي إلى فراش نيروز، ولم يتردد الكعب لحظة قبل دفعه الأفعى بقدمه بعيدا، وقتلها جمال، واستيقظت نيروز ولم تفهم ما يدور حولها، وتمنيت لو أني دفعتُ الأفعى لأكون مُنقذها من الموت، وبعد أقل من دقيقة عدلت عن أمنيتي وحمدت الله أني لم أفعلها، جلس الكعب الشجاع على الأرض واسترخى، وأشار إلى أحد سراويل نيروز الملقاة بزاوية الخيمة فناولته إياه وطلب أن أقرب له قربة الماء وأجلب قطعة قماش نظيفة وفعلت، ورفع سرواله وشد السروال على ساقه وبدأ في هدوء ينظف المكان الذي لدغته فيه الأفعى، كم تمنيت لو أن اليوم كان الثلاثاء؛ يوم النوائب! وحينما أخرج خنجره تركت جمال الدين ومعه جمال نيروز الصباحي، وأدرت ظهري لأبتعد كثيرًا حتى لو اضطررت لعبور النهر، ولم أهرب لأن الكعب يريد بي شرا بل لأن لدغة الأفعى تحتاج إلى جرح ومتطوع ليمتص السم قبل أن ينتشر في الجسد، ولو لم أهرب فمَنْ غيري سيمتص السم من قدم الكعب القذرة! تركت هذا الأمر لجمال الدين الشهم، ولابد أنه حاليا ركع على ركبتيه واحتضن ساق الكعب وبدأ في تقبيل قدمه ومص السم والدماء النجسة، وأنا اختبأت خلف إحدى الخيام أراقب خيمة الكعب، وأتساءل عن احتمالية موت الذي لم يترك كهفا أو جحرا إلا ودخله، وسار في ظلمة الليالي بين الصخور والحفر ولم تلدغه بعوضة، وفي فراش عشيقته الناعم تلدغه أفعى! اقشعرَّ بدني عندما تخيلت أن هذه الأفعى لدغتني بدلاً من الكعب، وعزمتُ على توخي الحذر في المرة القادمة التي ألامس فيها جسد نعناعتي وهي نائمة.
جمال الدين يخرج من الخيمة وخلفه نيروز يتحدثان قليلا ويتركها ويذهب، ولغة جسدهما لا تنبئ بأن الكعب قد مات، حملتُ بعض الطعام وعدت إليهم ووجدت الكعب مستلقيا مكانه، حزينا كئيبا وهموم العالم اجتمعت فوق رأسه، لم يسألني أين ذهبت ووفر علي الحرج، تركت الطعام وخرجت، فلحقتْ بي نيروز وقالت:
- ( الله يستر يا عزيز، الأفعى كانت سامة والحمد لله أن جمال الدين كان موجودا)
وشرعت في البكاء -كعادتها- وعلمت أن الوقت مبكر على معرفة نجاة الكعب من موته، ولكن من المؤكد أن جمال أمسى بعينيها بطلا، وأي ظلم أكثر من هذا! أنا الذي اكتشف الأفعى وأنا من أنقذها بصراخه، والحقير يحصد كل الفضل لنفسه!
ومع الظهيرة عاد عديد ورجاله ونصبوا خيمتهم مرة أخرى، واجتمع مع جودت وأعددت لهم القهوة وانضمت لهم فاطمة، وأشغلني الملط بثرثرته ولم يتسنى لي الاستماع لشيء مما دار بينهم من حديث، ولكن حينما خرجت فاطمة أوحتْ ملامحها ومشيتها بعدم الرضا.
لم تمر ساعة حتى أطل الملط ومن خلفه خدم يجرون أربعة من البغال المحملة، وتم تسليمها لعديد، فاستنتجت أنه يقوم بالدفن وإخفاء الكنوز، ويبدو أن فاطمة لم يرق لها ذلك، وما كانت لترضخ لجودت أو لغيره، لولا أن هناك أوامر وصلت من الباشا الكبير...راقبت الجميع حتى مللت، وذهبت أبحث عن جديد حتى غربت الشمس، والكعب لم يخرج من خيمته.
القمر بدر هذه الليلة ولا يبدو أننا سنخرج لدفن جرار الذهب، ولم أجد ما أفعله سوى جولتي التي اعتدت القيام بها بين الحين والآخر لأتلصص وأسترق السمع عبر الشقوق، هذه العادة اللعينة التي لم أقلع عنها يوما كادت تقتلني بعدما اشتبه في أمري يعقوب أسكن الله أفعى في قبره.
خادمي المتمرد سالم مازال يحفر الأرض ويخرج ما أخفاه من قطع ذهبية ليطمئن على وجودها ثم يدفنها، ولا أدري كم مرة يفعل ذلك في اليوم الواحد! أحمد شيخة في خيمة خدم فاطمة يقص عليهم الأكاذيب، وأحدهم يقوم بدور المترجم لمن لا يفهم العربية، وحيان في خيمته يترقب حتى شعرت أنه أمسك بي...لابد أنه ينتظر زيارة سرية غرامية، ونيروز مشغولة في لدغة الكعب، وأشك في أنها الشخص الذي ينتظره، وسأعود لاحقا لأرى ضيف حيان المُنتظر...اقتربت من خيمة أبي إيليا ومن فتحة صغيرة رأيته وجمال الدين يتهامسان، وبين أيديهما مفكرة صغيرة يرسم أبو إيليا عليها ويراقبه جمال باهتمام شديد، وعلمت أن اللعين قد فكر فيما فكرتُ فيه، وها هو يحصل على الرموز والإشارت التي نقشها أبو إيليا، لم أقلق كثيرا على كنوز فاطمة، ولكنه رافقنا لعدة أماكن لدفن الذهب، لم يكن من اليسر أن أسمع ما يدور من همس، ولكن نظراتهما إلى الفتى النائم أخبرتني بأن الصفقة بينهما لها علاقة بالرموز وإيليا، ربما أوهمه جمال بأنه قادر على مساعدته مقابل المعلومات التي بحوزته.
انتهى الاجتماع وتسلل جمال عائدا إلى خيمته، تُرى ماذا يخطط وكيف؟! عزمت على إنهاء تلصصي ولكن فضولي اللعين حثني على المغامرة قليلا والاقتراب من خيمة رباب، لعلي أحظى برؤيتها عارية! وبالرغم من خوفي من الوقوع بين يدي الزنجي حارس خيمة فاطمة التي لا تبتعد عن خيمة رباب تسللت وبحثت عن شق وخاب أملي لعدم تواجدها، وقبل عودتي أردتُ التلصص قليلا على الملط، لعلي أكشف بعض الأسرار! وما كان من السهل التلصص على متلصص، فقد بحثت عن شق أو ثقب صغير يسمح لي بإلقاء نظرة فلم أفلح، وحينما استدرت لأعود وجدته واقفًا خلفي مراقبًا فارتعبت قليلا ولمَّا ضحك اطمأن قلبي، وقال:
- لن تجد في خيمتي ثقب صغير يمكِّنك من النظر، تعال معي.
سار وسرت خلفه، وما كنت لأجرؤ على رفض ذلك، دخل الخيمة ودخلت خلفه وبهرني ما رأيت، هذه الخيمة تليق بسلطان وليس بخادم، فيها مقاعد فاخرة وفراش ملكي ناعم، والكثير من التحف الثمينة وملابس حريرية، وأحذية ثمينة، وسلاسل ذهبية وفضية، ومشروبات مصفوفة بزاوية، أوراق وأقلام ومخطوطات، سيوف، وخناجر وبندقية مُذهَّبة، وزجاجات فارغة وأخرى مملوءة بمواد سائلة متعددة الألوان، وأفاعٍ محنطة وعقارب وخفافيش وغربان وأجنة بشرية، والكثير من الأواني الفخارية، وشد انتباهي وجود حوض استحمام متنقل، وتساءلت إن كانت هذه خيمة الخادم فكيف تكون خيمة فاطمة! قدم لي شرابا أخضر اللون لم أذق أشهى منه في حياتي فأردت المزيد ولكنه ابتسم وقال:
- لا هذا يكفي أريدك يقظا يا حبي.
وكان للملط ما أراد، لا أعرف إن فقدت رشدي بسبب الشراب، أم أني رغبتُ أن يحدث ما فعلتُه به!
شعرت بالنعاس وأردت أن أغفو على فراشه الوثير الناعم، إلا أنه صرخ:
- ماذا تفعل؟ هيا عُد إلى خيمتك ونم فيها.
طردني بطريقة حقيرة -لعنة الله عليه- بعدما جرني لفعل شائن سأخجل منه طوال عمري، شعرت بالقرف منه ومن نفسي، ماذا وضع لي في الشراب ليجرني لمثل هذا الفعل المشين!
عدتُ إلى فراشي وحاولت النوم بعدما أقنعت نفسي بأن كل ما حدث كان من أثر الشراب، لم تغفو عيناي حتى شعرت بيد باردة تلامس وجهي، فتحت عيناي ورأيت شبحًا أسودًا ينحني فوقي ويحاول خنقي، تجمد الدم في عروقي وأخذت اقرأ ما استطعت من آيات لعله يتركني! ولكنه بدأ يصفعني على وجهي قائلا:
- تعال معي.
أغمضت عيني وأيقنت أنه ملك الموت جاء ليعاقبني على ما فعلته مع الملط، أمسك بأذني وشدها، وشعرت بألم شديد، فتحت عيني ورأيت الكعب، لابد أنه مات وجاء شبحه لينتقم مني، فالأشباح تعرف كل الأسرار، وعدت لأقرأ المعوذتين لعله يبتعد! ولكنه شد أذني حتى شعرت أنه سيخلعها، وطار النوم من عيني ومعه الشبح، ولم يبقَ سوى الكعب اللعين ينظر إلي ويقول:
- أنا مريض يا عزيز وأحتاج إلى طعام .
فقلت له:
- سأعد لك الطعام توًا.
- أحتاج قلبًا أو كبدًا.
- اذبح بعيرًا وسأعد لك من الطعام ما تشتهيه نفسك.
- اذهب وأحضر الولد العربي أحمد وسأنتظرك بجوار الدواب.
فقلت له لعله يعدل عن رأيه:
- أحمد شيخة ينام مع خدم فاطمة، وهناك زنجي حارس، ولكن ما رأيك أن آتي لك بجمال الدين لتأكله وتُشفى من مرضك؟
- هيا اذهب وأحضر لي الولد، ستجده نائمًا في خيمته، أسرع قبل أن تشرق الشمس.
خرج من الخيمة وتأكدت بأني لست حالمًا، والخيارات أمامي محدودة، إما أن أطعمه قلب أحمد شيخة أو سيأكل قلبي لاحقا، وماذا كان بوسعي أن أفعل! ذهبت إلى أحمد وأيقظته ولم يكن الأمر سهلاً، وما حملته معي من سجائر تكفل بإقناعه فرافقني وهو نصف نائم وربما اعتقد أنه يسير في حلم، اقتربنا من الدواب ودخلنا بين الأشجار، وبدأتْ السماء في الاحمرار، وأسرع من التفاتتي فتح شيخة فمه ليتثاءب فظهر الكعب من خلفه وأغلق فمه بيده وعالجه بطعنة في خاصرته أسقطته أرضا وشلت حركته، لم يسعَ المسخ لقتله وإنما أراد أن يشل حركته ليتمكن من شق صدره وإخراج قلبه وهو مازال ينبض بالحياة، كان ذلك أمام ناظري ولم أشعر بشيء، لا خوف! لا حزن! لا شفقة! لا قرف! لا شيء! تبلدت أحاسيسي! قضم من قلبه قضمة واحدة، وأخرج لسانه ليلحس ما سال على ذقنه وشفتيه من دماء.
طلب عودتي سريعًا لأجمع كل ما له علاقة بأحمد، وأُحضر فأسا ومجرفة، لم أفهم لماذا أراد إثبات محاولة هربه! هذا المسخ لو قتلنا جميعا لن يعترض أحد، ربما اعترض جودت وقال له "لا تفعلها مرة أخرى يا شيخ طبرق" وكان سيرد عليه "انت شوف شغلك وانا بشوف شغلي".
اللعنة عليهم جميعا! لم يبقَ في قافلتنا إلا أنا وسالم، على من سيتغذى لاحقا؟! ربما سأقنعه أن ينتقل إلى قافلة فاطمة، حفرتُ ودفنتُ أحمد مع كل مقتنياته، وكانت الشمس قد أشرقت.
الخنزير تركني وذهب بعدما أعطاني ما تبقى من قلب أحمد لأطهوه، أفاق سالم وتفاجأ أني استيقظتُ قبله، وساعدني في إشعال النار، وحينما بدأت قلي قلب شيخة مع القليل من البصل فاحت الرائحة، وسال لعاب سالم وحاول أن يمد يده لتذوقه فمنعته من ذلك، وسألني إن كنت قد بصقت كعادتي لهذا أمنعه، وكنا قد تعاهدنا ألا يبصق أحدنا في طعام الآخر أو شرابه، صمت ولم أجد جوابا للسبب الذي دفعني لمنعه من تذوق قلب صديقه، ربما حبي له، ربما وجدت أن بساطة سالم لا يجوز أن تتلوث بأكل قلوب البشر...ربما خفت أن ترافقني هذه اللحظة كلما رأيته...ربما أرغب في أن أخوض هذه التجربة وأتذوق طعم لحم البشر، وبالرغم من أن هذه اللحظة لا تذكر مقارنة بما شهدته من شق صدر أحمد وإخراج قلبه إلا أنه لم يرافقني سوى اللحظة التي حاول فيها سالم تذوق القلب.
مع شروق الشمس ناولتُ الكعب طعامه الشهي بعدما طهوته كما يحب مع الكثير من البصل، وشرع في التهامه بمتعة غريبة، وليت الأمور توقفت عند هذا الحد بل مد يده إلى نيروز وجذبها من ساقها وهو يقول:
- ناره ناره، أفيقي وكلي معي.
أفاقت الكسولة وجلست بجانبه ورمت رأسها على كتفه، وأخذ يطعمها بيده، كانت عيناها نصف مغمضة ولم تنتبه لوجودي، وجلست أراقب، لم أتقزز، ومرت لحظات قبل أن أعود لطبيعتي وأترك العنان لخيالي:
- ماذا سيحدث لو أخبرتها الآن بأنها تأكل قلب الشخص الذي أشفقتْ عليه فأعطته الذهب ليشتري طعاما لإخوته؟!
وسألتها سرًا:
- نيروز هل طعم أحمد شيخة لذيذ؟ هل يحتاج إلى المزيد من الملح؟هل نضج جيدًا؟! كلي أيتها اللعينة أنت وقردك هذا، ولا تحلما جميعا أن تتذوقا لحمي! سأطهوكما وأطعمكما للكلاب، وأقسم إن ذُبح جمال الدين لن أمانع من تذوقه ولو بغير طهو.
أغمضتْ عينيها ونامت على كتفه ومازالتْ تلوك بقايا القلب في فمها، وأشفقت عليها، ما ذنبها لألعنها معهم! إنها ملاك ينام في أحضان شيطان! أنا المذنب الأول فيما حدث، واختيار أحمد شيخة لم يكن اعتباطيًا، بل نتيجة التقارب بين المسخ وجمال الدين، التفكير الساذج الذي اتبعته أتى بعكس ما أردت.
تركت العاشقين يلتهمان أحمد وذهبت لجمال الدين، أيقظته من نومه وباغته بسؤال:
- لماذا أخبرت طبرق عن أحمد شيخة وتسببت في قتله؟
فقال:
- وبم يضرك ذلك؟ ألم تقل مُسبقًا أن مصلحتنا في التخلص منه؟
- وهل تعرف أن صديقك الخنزير يتناوله الآن على الإفطار؟!
فرك عينيه ويبدو أنه لم يفهم ما قلته، وقال:
- يتناول معه الإفطار! ألم يقتله؟
وشر البلية ما يضحك فقلت له:
- أحمد شيخة بنفسه هو إفطار الشيخ طبرق، وأنا طهوته بعدما ذبحه.
تقزز جمال الدين وقال:
- هل جئت لتمارس لعبة البلاهة معي؟
- أمازحك فقط، لا أحد يأكل لحم بشر، فقط أردت إبلاغك بموت أحمد.
- وما الفارق في موته الآن أو بعد أيام؟ أنت تعلم أن الجميع سيموت في هذه القافلة.
- الأعمار بيد الله يا جمال الدين.
- آمنت بالله.
أشعل سيجارة وتابع:
- أعقلها وتوكل يا عزيز، وتوقف عن ممارسة دور الأبله معي وأعدك أن تصبح أثرى أثرياء إسطنبول.
استفزني ما قال وسخرت منه بشفتي وعضلات وجهي، وقلت له:
- لا حاجة لي في الثراء أنا راضٍ بما كتبه الله لي.
عض على شفته السفلى وقال:
- هل ترغب أن أهمس باسمك في أذن كاظم لتلحق بأحمد شيخة؟
وأسرع من صدى كلماته أجبته:
- وهل ترغب أن أهمس في أذن جودت عمَّا فقده من ذهب؟
فقال:
- نعم أرغب في ذلك، هيا افعلها، ولكن في أي خيمة سيجدون الذهب المفقود؟
هذا اللعين حسم الأمر وأثبت أنه يفوقني دهاء ومكرًا، وأعادني لأرى قصر قامتي وانعدام خبرتي في عالم المتآمرين، هذا الماكر احتاط لكل شيء وليس من المستبعد أنه قام بدفن الذهب في مكان ليورطني في سرقته، وكما قال روهان يوما "بعض الأبواب تتطلب أن ننحني لندخلها" فصمتُّ، وأعلم أنه سيرى في صمتي هزيمة، وارتسمت ابتسامة النصر على شفتيه القذرة وقال:
- والآن يا صديقي أرى أنك اخترت الثراء والعيش في قصور بدلاً من زيارة معسكر شكيب والتعرف على المدرسة التي تعلَّم فيها يعقوب.
أحنيت رأسي والتزمت الصمت، فتابع:
- الشيخ طبرق على قناعة بأنك مجرد أبله لذا أريد منك أن تستمر في أداء هذا الدور وقد رسمت خطة فيها نجاتي ونجاتك.
ولم يكن أمامي خيارًا إلا مسايرة هذا الحقير فسألته:
- وما أدراني أنك لن تقتلني لاحقا؟
- أقسم لك بشرفي أني لن أفعل إن عاهدتني ألا تخونني.
ضحكت وقلت سرًا: أقسم بشرفك يا جمال الدين ألا أخونك!
واستحضرت قصةً رواها روهان بيك حيث قال: إن السلطان جمع وزراءه وطلب منهم أن يقسموا بشرفهم ألا يخونوه، وأقسموا جميعا، وحينما طلب من مستشاره أن يفعل المثل قال أقسم بشرفك وشرفهم ألا أخونك يا مولانا...أقسمت لجمال الدين بشرفه وشرفي ألا أخونه، فابتسم وطلب مني أن أذهبَ وأعدُّ قهوته، وأحنيتُ رأسي وقلتُ بصوتٍ خافت:
- سمعًا وطاعةً يا سيدي الجديد، وسأتبول على قبرك قريبا.
حديثنا أكَّد لي أن جمال الدين استغل قصة شيخة والذهب، واستطاع أن يمدَّ جسرًا بينه وبين الكعب الذي أكل قلب أحمد لإخفاء سِرِّ الذهب في خيمته، وغبائي والقصص التي اختلقتُها ساعدتْ على أن يرى الكعب في جمال حليفًا له، وقبلة جمال والأفعى لقدم الكعب عززت الثقة بين الماكرين، ليدركا أن مصلحتهما في التعاون لا الخصام، وكلُّ الشكر لعزيز أفندي الذي مهَّد لكل هذا، وجاء بسيد جديد فوق رأسه...لا أعرف ماذا حدث مع نيروز، هل عاقبها الكعب على أخذ الذهب دون علمه، أم أنه وفَّر على نفسه عناء مسح دموعها طوال الليل واكتفى بتحذيرها وتجاهل الأمر.
ومع العاشرة صباحًا حضر كاظم كعادته وتفقَّد الجميع فاكتشف غياب أحمد شيخة، وسألني عنه فأخبرته أن يذهب إلى الشيخ طبرق ويسأله ففعل، دقيقة دار بينهما حديث وانتهى كلُّ شيء، الكعب لديه تصريح بقتل من يشاء متى شاء، الجميع افتقد أحمد وسأل عن سرِّ غيابه: هل هرب؟ هل قُتل؟ لا جواب، ولا أحمد شيخة بعد اليوم.
انزوى جمال الدين بكاظم ودار بينهما حديث لا أعلمه، فكاظم مسؤوله المباشر قبل يعقوب وبعده، وهو صلة الوصل مع شكيب، كما اجتمع كاظم مع جودت لأكثر من ساعة، وقد أعددتُ القهوة وقدمتها ولم أتمكن من سماع حرف واحد، فذهبت إلى جمال وأعلم جيدا أنه سيكذب فيما سيقول، ولكن أملتُ في فهم شيء، أخبرني بألا أقلق لأن كاظم وشكيب لا يهتمان بأحد سوى حيان ومراقبته، أما البقية فلا يكترثان بما يفعلون.
وبعد العصر اجتمع شكيب وجودت وشربا القهوة، وجزء ممَّا دار بينهما من حديث كان حول نقل الفتى خارج المخيم إرضاء لوالده الذي أعلن تمرده على الخروج للنقش قبل نقل ابنه للعلاج، وطلب جودت أفندي من شكيب أن ينقل الفتى للعلاج رحمة بوالده، ولكنه اعترض بحجة انعدام المكان الذي يأخذه إليه، وأن وجوده بجوار أبيه أفضل من نقله، وأمام إلحاح جودت وافق أن يجد حلا، ونبرة صوته كانت توحي بحل من نوع آخر، وأستطيع الجزم أن جودت بريء مما قد يحدث للفتى.
نادى عليّ وطلب مني إخبار أبي إيليا أن يعد ابنه ليصحبه رجال شكيب للمشفى، وغمرته الفرحة لمَّا أخبرته، ولأتأكد من صحة توقعي في استغلال جمال الدين له كي يحصل على الرموز مقابل مساعدة ابنه، قلت له وفاجأته بالسؤال:
- لقد أوفى جمال الدين بوعده أليس كذلك؟
فردَّ عليَّ في غمرة فرحته وقال:
- نعم لقد أوفى بوعده ولن أنسى له هذا الجميل أبدا.
لم يكن هناك شيئًا لأفعله سوى مساعدته في تجهيز ابنه وإرساله إلى موته المؤكد، فمثل شكيب لن يهدر وقته، ولن يترك الفتى ينجو وهو يحمل معه مفاتيح ورموز كُلِّ الدفائن، وذهب إيليا وإن عاد أحمد شيخة يومًا سيعود .
<<<<<نهاية الحلقة 52>>>>
Comments